من أنا

صورتي
طبيب ومدون، ابدأ خطواتي نحو المشاركة السياسية والحقوقية، أعشق الهدوء والخط العربي والتصوير. dr_hossam_elamir@hotmail.com

السبت، 27 أكتوبر 2012

العياخانة

 
في نضالهم لأجل حقوق الأطباء وضمان خدمة صحية تليق بالإنسان، يستمر هؤلاء المهمومين بمشاكل الصحة في إضرابهم الجزئي متحدين صلف القيادات وتجاهل الإعلام أو تواطئه ضدهم، وتظل محاولاتي كشف حقيقة الوضع المزري -كمصور من قلب الحدث- هي وسيلتي لدعم زملاء المهنة من الأطباء داخل مصر.

لمست تعاطفا من الرأي العام لما دونته سابقا عن كم الفساد والاهتراء الذي عصف بالمنظومة الصحية في مصر، وذلك عبر وصف محطات هامة لحياتي العملية منذ التخرج حتى سفري للعمل في إحدى الدول، وطالبني أصدقائي أن أفتح الجرح تماما حتى يطل الناس على ما فيه من قيح وتلوث، ولهذا أبدأ سلسلة من المقالات لا أعلم عددها، ولكنني أعلم متى سأتوقف عن كتابتها.

فلتعلم يا سيدي المتعاطف مع الأطباء في إضرابهم، اللائم جزئيا لهم، أن هذا الإضراب جزئي، لا يشمل الأقسام التي تقدم رعاية حرجة أو طارئة، ولن تتسبب في تعريض حياة أي مريض للخطر، وأن كون الإضراب جزئي فهو السبب في ضعف تأثيره، وأن تأثيره يتحقق على المدى الطويل وبدعم الرأي العام، ولتعلم أن مطالب الإضراب لا تنحصر في كادر الأطباء فقط، ولكن أيضا في زيادة ميزانية الصحة، ووضع برنامج لتدريب الأطباء، وتأمين المستشفيات، وكل تلك المطالب المستفيد منها هو المريض، حتى كادر الأطباء، فالطبيب الذي يحصل على مرتب يغنيه عن العمل في أكثر من مكان ولساعات عمل تفوق قدرة البشر على التحمل والمواصلة، مرتب يسمح له بدفع مصاريف التدريب والتعليم، هو طبيب قادر على منحك الرعاية الصحية الآمنة والمتوافقة مع المعايير العلمية والأخلاقية، ولا اعتقد أننا سنتجادل حول ما إذا كان مرتب الطبيب الحالي -الذي يبدأ ب300 جنيه- قادر على تغطية الاحتياجات السابقة أم لا.

قد تعتقد يا سيدي المواطن أن ما ذكرته من البديهيات تتفق عليها قيادات الصحة في هذا البلد، وأن المعضلة هي كيفية توفير الموارد لهذه التحسينات، ولكنك ستفاجأ حينما أؤكد لك أننا نتكلم عن قيادات لا تملك إرادة التغيير، فهي ربما لا تؤمن بضرورة التغيير، أو هي تملك إرادة أن يظل الوضع على ما هو عليه، وسأحكي لك قصصا عايشتها وزملائي في مستشفى هيئة سكك حديد مصر، تثبت لك ذلك، ولك مطلق الحرية أن تظن أن وضع مستشفيات وزارة الصحة مماثل، وأؤكد لك أن ظنك هذا لن يكون من البعض الذي تأثم عليه، بل سيكون من حسن الفطن.

في المستشفى الذي عملت فيه يا سيدي الفاضل كانت قيادات المستشفى وقيادات الهيئة المالكة للمستشفى يؤمنون أنه مستشفى للفقراء المحتاجين من العاملين في الهيئة، لكنه ليس مكانا لائقا لعلاج القيادات وكبار المهندسين، فهو يفتقر للتجهيزات والأدوات والعلاج وتأهيل الطاقم الطبي العامل، وهم لا يريدون تغيير ذلك بالمرة، فهم لا يحتاجون لتغيير ذلك.


كانت قيادات الهيئة وكبار المهندسين عندما يمرضون -فهم بشر يمرضون كما نمرض- يتلقون علاجهم في مستشفيات أخرى، وتقوم مستشفى الهيئة بسداد فاتورة العلاج، حتى وإن كان العلاج أو التدخل الموصوف لا يتطلب مهارة خاصة لا تتوفر في المستشفى، بينما الفقراء الذين نعالجهم ليس لهم هذا الحق، إلا فيما ندر وعند تصعيد الأمور، بل الأدهى من ذلك، أن زميلا تقدم بطلب لإدارة المستشفى للموافقة على قيامه بالتسجيل لدراسة الدكتوراه -على حسابه الخاص وبدون أي التزام من المستشفى- فتم رفض طلبه ورد عليه المدير: (المستشفى مش محتاجة دكتوراه)! في رأيي أنه كان يقصد أن من يعالجون في المستشفى لا يستحقون أن يعالجهم من يحمل الدكتوراه، أحب هنا أن أوضح أن عدد من يحمل الدكتوراه في المستشفى ربما لا يزيد عن أصابع اليد الواحدة.

والحقيقة أن الممارسة الجراحية لعلاج هؤلاء الفقراء كانت تتم بخلفية علمية تثبت فعلا أن المستشفى لا تعالج من يستحق أن نحصل على درجة الدكتوراه لأجله، أتذكر جيدا هذا المريض الذي كان يعاني من حصوة بالحالب حجمها 3 سم، وأراد ذلك الجراح استخراجها عبر الفتح، ثم إنه أوكل عملية أخذ التاريخ المرضي للنائب دون أن يتحقق بنفسه، وتجاهل توصية النائب بعمل أشعة بالموجات فوق الصوتية قبل العملية، كما أنه تجاهل تجهيز أكياس دم قبل العملية رغم عدم وجود بنك للدم في المستشفى، وقد ذكره النائب بذلك فقال: (أنا بعملها من غير دم)! وإليك أحداث العملية، تم فتح بطن المريض لاستخراج الحصوة، وجد أن المريض قد أجريت له عمليات سابقة وهو ما أدى لوجود التصاقات يصعب معها التعامل مع الأعضاء دون إصابتها، تم قطع الشريان الحرقفي الداخلي مما أدى لنزيف حاد، لم يستطع الجراح الجهبذ التعامل مع الشريان المقطوع فأحضر جراحا آخر قام بربط الشريان الحرقفي المصاب كما ربط الشريان الحرقفي الخارجي خطأ بإبرة قاطعة (cutting)، فأصيب المريض باسكيميا حادة في الرجل، وكانت تعليقات الجراح الجهبذ بعد الخروج من غرفة العمليات أن النائب يتحمل الخطأ لأنه لم يأخذ التاريخ المرضي جيدا حيث أنه لو علم أن المريض قام بعمليات أخرى في هذه المنطقة لأزال الحصوة بالمنظار أو التفتيت! (أه والله قال كده) ثم أوصى النائب أن يقوم بنزع الفتيل الموضوع حول الشرايين في نهاية نوبة العمل حينما يستقر المريض!

لم يعرف أن الشريان الحرقفي الخارجي ربط خطأ إلا بعد خروج المريض من العمليات بساعات وظهور علامات الإسكيميا الحادة علي رجله، فقام النائب بالاتصال بالجراحين فلم يأتيا إلا عقب الساعة 12 فجرا بعد انتهائهما من عيادتيهما الخاصتين، فقاما بإدخال المريض للعلميات مرة أخرى لعمل رقعة للشريان المربوط، فنزف المريض 3 ليترات أخرى غير الليترات الثلاثة التي نزفها أول اليوم، ولم يستطيعا انقاذه، ومات المريض وهو ما يزال بحصوته، ثم خرج الطاقم الطبي من الجهابذة الواحد تلو الآخر، وكلما سألهم أهل المريض عنه أجابوهم: (الدكتور لسه شغال)! حتى لم يتبق إلا النائب الذي خرج فأبلغهم الفاجعة، فكاد الأهل أن يفتكوا بالنائب لولا أن خرج ممرض العمليات ودافع عنه، ثم ضغط الجراحون الجهابذة على أهل المريض حتى لا يتقدموا بشكوى، وعرضوا عليهم توصيل الجثمان بالقطار إلى أسوان، فتمت المصالحة!

يا سيدي المريض المحتمل -أدام الله عليك نعمتي الصحة والعافية- هذا النائب هو من يتظاهر اليوم ويضرب لأجل حقوقه وحقوقك في رعاية صحية تحفظ كرامتك وحياتك، وهؤلاء الجراحين هم الأطباء أصحاب العيادات الخاصة الذين لا يقدمون لك الخدمة المجانية في المستشفى، وقيادات المستشفى هم قيادات الوزارة التي تتهمنا بالمتاجرة بآلام المرضى وتصم آذانها عن المطالب المستحقة، وأنت هو المريض الذي نحارب من أجله، فاختر المكان الذي تريد الوقوف فيه، كي تحظى بعلاج ملائم في مستشفى مجهز، أو ارض بما تتلقاه في العياخانة.

ليست هناك تعليقات: