من أنا

صورتي
طبيب ومدون، ابدأ خطواتي نحو المشاركة السياسية والحقوقية، أعشق الهدوء والخط العربي والتصوير. dr_hossam_elamir@hotmail.com

السبت، 23 يوليو 2016

العثمانلية التائهة


كتب علي فريد:

لن يتركونا.. وإن تركناهم!!
الذين فشلوا منذ مائة سنة في إسقاط القسطنطينية بحملة الدردنيل في الشمال؛ أسقطوها بإشعال الثورة العربية في الجنوب!!
إنهم الروم أصحاب القرون!!
وسيعودون.. وسنعود !!
***
لا يمكن أن نعرف الآن حقيقة ما حدث.. كلها روايات متضاربة نستطيع تصديق أكثرها غرائبية بذات السهولة التي نستطيع بها تصديق أكثرها معقولية!!
والحقيقةُ _غالباً_ رفاهيةٌ يصعب الحصول عليها!!
تركيا _في العموم_ أشبه بلعبةِ المتاهة.. لا تكاد تنتهي فيها من دهليز حتى يسلمك الدهليز لدهاليز، وفي كل دهليز ممراتٌ بِغُرَفٍ تخرج منها حيات وعقارب وأشباح ومهالك..
هي شبكة صيادٍ تَقّلبَ بها سمكُ الرَّعاد ألف مرة، وكلما حاولتَ تفكيكها تشابكت في يديك مرة أخرى مع صعقة أو صعقتين من السمك الملتف بها!!
فلا تطمع _والحال هذه_ في الحصول على رفاهية الحقيقة!!
***
هذا العثمانلي التائه لم ينجح في شيء قدر نجاحه في إصابة الناس بالتيه.. أنتَ معه متذبذب بين الفكرة ونقيضها.. بين خيالك العاطفي عن سليمان القانوني وهو يرد على استغاثة ملك فرنسا معتبراً فرنسا ولايةً تابعة له، وبين خيالك الواقعي عن عبد الحميد الثاني وهو يقود سفينة عثمانية تائهة تجري بهم في موج كالجبال.. ولا عاصم من أمر الله إلا من رحم!!
يعطيك أردوغان كلَّ ما تريد.. كفرَ العلمانية المحض وإيمانَ الإسلام الخالص.. ثم يتركك متأرجحاً بين صحيح العقيدة في الولاء والبراء والمفاصلة، وبين صحيح الفقه في استصحاب الواقع ودرء المفاسد المقدم على جلب المصالح!!
حيناً: ترى فيه وجهاً عثمانياً بقناعٍ أتاتوركي.. وحيناً: ترى فيه وجهاً أتاتوركياً بقناعٍ عثماني، فإذا نزعتَ القناعين عن الوجهين تداخلت أمام عينيكَ الوجوهُ والأقنعة حتى لا تكاد تعرف وجهاً من قناع!!
تنظر لظروف المنطقة وأوضاعها فتشعر أنه سدٌ أخير_وإن لم يكن منيعاً_ بينك وبين السيل الذي يوشك أن يُطَيِّن معالم المنطقة ليعيد بناءها حسب الخطة الجديدة.. ثم تنظر مرةً أخرى لظروف المنطقة وأوضاعها فلا تستبعد أن يكون هو ذاته دفقةَ ماءٍ شديدةٍ في هذا السيل الطامي!!
تتذكر (إنجرليك).. ومعها تتذكر التسعينات_وما أدراك ما التسعينات_حين أفتى علماء الدين وحَفَظَةُ الملة بجواز الاستعانة بالكفار في صد المسلمين المعتدين.. ثم تتذكر أنك أقنعتَ نفسَك حينها بصحة الفتوى من قبيل (الحديبية) و(ثلث تمور المدينة).. ثم ترى مآلَ الأمر بعد أن باض الكفارُ في ديارنا وفرّخوا، واتخذوا بلادنا قاعدةً لضرب بلادِنا، ولم يتركوا في نخيلنا تمرةً واحدةً إلا أكلوها ثم باعوا نواها لنا.. فلا تعرف هل المجازر التي حدثت بعد صدور الفتوى أقل حدة من المجازر التي كان يمكن أن تحدث لو لم تصدر الفتوى!!.. ثم تنتقل لمستوى آخر في المجازر لتقارن بين المجازر التي كانت ستحدث للمسلمين في تركيا وما حولها لو نجح الانقلاب وبين المجازر التي تحدث الآن للمسلمين في العراق والشام منطلقةً بعضُ أسبابها من تركيا.. فيهولك الأمر حين تكتشف أنك صرتَ تُفرِّق _في بحر الدماء دون أن تدري_ بين دم مسلمٍ ودم مسلمٍ آخر.. والمسلمون عدول تتكافأُ دماؤهم ويقوم بذمتهم أدناهم.
ثم لا تلبث أن تلعن هذا الوضع كله حين تكتشف أن مُنَظِّري الحديبية وعشاقَ فقه الواقع أوصلونا إلى لحظةٍ صرنا نوازن فيها بين إمكانية تقبلنا لسفك دماء المسلمين في الشمال وإمكانية تقبلنا لسفك دماء المسلمين في الجنوب.. وكأنه لا خيار أمام المسلمين إلا أن تُسفكَ دماؤهم بما جنته عقولهم!!
وحين تبتعد عن المشهد قليلاً ثم تُعيد التفكير فيه.. تكتشف أن النتائج التي تطلبها ليس لها منطلقات في أرض الواقع، وأنك تعيش وتفكر في صندوق مغلق اسمه (النظام العالمي) له منطلقاتٌ مضادةٌ تماماً للمنطلقات التي تتخيل أنتَ جريَانها في الواقع؛ فصرتَ _كلما رتبتَ نتيجةً على منطلق_ تشعر بلا معقولية النتيجة مع ذلك المنطلق؛ لغفلتك عن غياب المنطلق الذي تتوهم حضورَه.. حتى اجتمعت بين يديكَ مئاتُ(النتائج غير المعقولة) لمئات (المنطلقات المتوهَمَة).. ومع تتابع الزمن وتطاول الأمد تَسرّبَ إلى نفسك وترسّبَ فيها (لامعقوليةُ) منطلَقِكَ ذاته.. وإذ أنت بين أمرين لا ثالث لهما: إما أن يغلبك الشك في منطلقك فتكفر به وتصبح رقماً في صندوق النظام العالمي؛ وإما أن تكسر هذا الصندوق وتخرج إلى شمس الله المشرقة لترى منطلقاتك بنتائجها كشمس الله المشرقة!!
وقد غبرنا زمناً نطيع سادتنا وكبراءنا داخل الصندوق ملفِقِين وراءهم بين الأبيض والأسود ومُوفقِين معهم بين الظل والحرور ومساوِينَ بسببهم بين الظلمات والنور.. ولكي يتماشى الإسلام مع (صندوق النظام العالمي) جمعنا فيه الأشتات والأضداد والمتناقضات حتى صار أكثر دينٍ يجهله الإسلاميون هو الإسلام ذاته، وصارت المباديء كالسيدة الفاضلة التي يغتصبها أبناؤها بدعوى الحفاظ عليها.. وكأننا_ لشدة حرصنا على عدم تشويه الإسلام_ لم نعد مسلمين!!
أردوغان ليس أكثر من رئيس دولة علمانية وطنية ديمقراطية في صندوق النظام العالمي، يعمل بآلياته ويسير_طوعاً حيناً وكرهاً أحياناً_ بمنطلقاته.. إلا أن أصحاب الصندوق لا يريدون في هذه المنطقة الخطيرة (عقائدياً واقتصادياً) أحداً يمكن أن يزعجهم بمجرد التفكير في التعامل الندِّي معهم أو رفع رأسه لتُساوي رؤوسَهم، أو المساومة الشديدة في فتح الأسواق لمنتجاتهم وبضائعهم أو فتح القواعد لصواريخهم وطائراتهم.. ولأنهم يعرفون الخلفية العقائدية التي جاء منها أردوغان ومفاصلتَها للنظام العالمي، ويعرفون أيضاً أن مجيئه كان حسب قواعد النظام العالمي الديمقراطي؛ فإن خشيتهم من إمكانية خلخلة أسس النظام الفكرية من الداخل تظل مسيطرةً على نفوسهم وعقولهم وهواجسهم رغم ما يظهر من أردوغان بين الفينة والأخرى من مخالفة لأصوله العقائدية.. وحتى لو كان أردوغان عندنا وعندهم لا يبدو بهذه الصورة إلا أنه في تصورهم يمكن أن يكون تجربةً يُنسج على منوالها ويُسار على أثرها.. وهم لا يسمحون بالتجارب إن وصل الأمر للجذور ؛ فاستلهام الإسلام أو إعطاءُ بعضِ مَظاهِرِهِ شيئاً من حرية الحركة قد يُقبل في جزيرة العرب أو مصر أو الشام أو غيرها من المناطق التي يتعاملون معها حسب ظروفها.. ولكنه مخيف جداً في منطقة كانت_منذ تسعين سنة فقط_ عاصمة الخلافة الإسلامية ومقر راياتها الخفاقة.. وإن غاب هذا المعنى عن بعضنا في زحمة التصورات السياسية والاقتصادية فإنه لا يغيب عن الصليبيين وأحفادهم.. وكلهم صليبيون!!
***
لقد فشل الانقلاب.. لكن هل سينجح أردوغان؟!
الحمد لله على نعمة فشل الانقلاب.. ولكن هل سيأتي انقلاب آخر نقول فيه كما نقول الآن عن انقلاب مصر: الحمد لله على نعمة الانقلاب؟!
مقتل تركيا_غالباً_في جنوبها، كما أن مقتل العرب_غالباً_في شمالهم.. ثم تتكاثر المقاتل حتى لا تعرف من أين تأتي الضربات!!
سيعودون ثانيةً وثالثةً ورابعة.. بنفس الطريقة أو بطرق أخرى.. كما فعلوها بعد حملة الدردنيل الفاشلة في الشمال.. فَثوُّروا العرب في الجنوب ليسيطروا على تركيا من جنوبها.. ثم أسقطوا العرب في شمالهم بسوريا والعراق.. ليسيطروا بعدها على شمال العرب وجنوبهم وشرقهم وغربهم.. وعادوا وعدنا من حيث بدؤوا وبدأنا!!
أغلب ظني أن نجاح الانقلاب كان سيجعل من الخليج محطةً ثالثة له بعد تركيا والعراق والشام.. هذه طبائع الأشياء.. تطول الفترة الزمنية الفاصلة أو تقصر.. لقد كان فشلهم في الدردنيل مدوياً.. ولأنهم _كما قال عمرو بن العاص رضي الله عنه عن الروم_: "أسرعهم إفاقةً بعد مصيبة وأوشكهم كرةً بعد فَرّة..." ؛ فقد أفاقوا في جنوب تركيا العربي وكروا بعد الفَرّة؛ فطوقوها من جهاتها الأربع ثم دخلوا الخليج ففتتوه إلى ما ترون.. وإنهم لعائدون لتفتيتٍ جديد!!
ومن أعجب العجب أن أردوغان _على ما فيه_ لا يزال حتى الآن، (أقول: حتى الآن) درعاً واقياً لصنفين من أعدائه: الذين يُبغضونه في الخليج، والذين يكفرونه في العراق والشام.. ولو اعتبر هؤلاء أن هذا الانقلاب الفاشل حملةَ دردنيل أخرى ثم نظروا إلى ما حدث بعدها من أهوال في العقد الثاني من القرن العشرين؛ لعرفوا ما الذي كان ينتظرهم إن سقط أردوغان.. ولا أدري والله كيف يفرح عاقلٌ بانهيار سَدٍّ كان يأتيه من بعضِ شقوقهِ بعضُ غرق، ولو انهار لجاءه سيلٌ عَرِم.. وما فكرة (إدارة التوحش) بصالحةٍ في كل حين أو مجديةٍ في كل مكان.. وقد عرفتم ما ينتظركم فتجهزوا له.
***
تبدو تركيا الآن كمضمارٍ كبير يصهل فيه فرسٌ واحد: أردوغان
هذا هو الظاهر.. والباطن يعلمه الله، ثم المتحركون فيه!!
الأخبار التي تتوالى تباعاً تؤكد أن الرجل هَبّت رياحُه فاغتنَمَها!!
من سيسأله الآن عن إقالة آلاف القضاة والعسكريين ورؤساء الإدارات والمؤسسات؟!
من المستبعد عقلاً أن نصدق أن هذه الآلاف المؤلفة شاركت (فعلياً) في التخطيط لانقلابٍ فاشل كهذا.. لقد جاءته الفرصة على طبق من ذهب لتصفية حساباته السياسية مع أبشع مؤسسة عسكرية في الشرق، ثم مع الكيان الموازي.. حليفه القديم الذي أصبح _في تركيا الأردوغانية_ مشجباً تُعلق عليه كلُّ مشاكلها بحقٍ حيناً، وبباطلٍ أحياناً!!
لم أستسغ اتهام الكيان فور وقوع الانقلاب.. هذا أشبه باتهام(الإرهاب الإسلامي!!) بعد كل حدث عنيف في الغرب قبل التحقيق فيه!!
الجميع مقتنع بتورط هذا الكيان.. وأنا منهم.. ولكن لا أظن أن عاقلاً يحتاج إلى كثير تدبر ليعلم أن الدول العربية والإقليمية والعالمية التي نجحت في وأد الثورات العربية أو تعويقها كانت هي المحرك الأول لهذا الانقلاب الفاشل.. وحين يخرج الرئيس بعد ساعةٍ من بدء الانقلاب ليتهم الكيان الموازي تحديداً؛ فإن اتهامه هذا ليس أكثر من تُكأة أُحسِنَ استخدامها لضرب (البردعة) بدلاً من (الحمار) الذي يحتاج ضربُه أو مقاومتُه وقتاً وجهداً غير متوفرين الآن!!
لا تلتفت كثيراً للدعايات التجميلية التي تجعل (العقائديةَ) سبباً في معاداة أردوغان للكيان الموازي.. فلا غولن هو الشيطان الرجيم الذي يناهض أردوغان بسبب الإسلام، ولا أردوغان هو الملاك الرحيم الذي يحارب غولن للدفاع عن الإسلام.. هي مصالح سياسية قد يكون خلفها شيٌ من بُعد فكري قومي توافقت حيناً فتحالفا، ثم تضادت فتنافرا.. وقديماً قالت العرب:"لا يجتمع سيفان في غمد ولا فحلان في قَرَن"، وما إسقاط أردوغان لأحمد داوود أوغلو عنا ببعيد.. وإن من العَبَطِ العَابِطِ والخَبْطِ الخَابِطِ أن يُدخِلَ (إخوانُنا الطيبون) الدينَ في معركة بين رجلين لا فرق بينهما_في التصوف والعلمانية والتعامل مع الغرب والأخطبوطية التنظيمية والبراجماتية السياسية_ إلا كالفرق بين السبّابة والوسطى؛ يختلفان شكلاً وحجماً ولكنهما في النهاية إصبعان في يَدٍ واحدة!!
ربما أكون مخطئاً.. ولكن ضخامة الإقالات تدل على ضخامة الفرصة.. وهذا العثمانلي التائه (صَايعٌ) حقيقي رغم تيهه!! فمن الصعوبة بمكان أن نقتنع بمشاركة كل هؤلاء في انقلابٍ قُطِّعت ذيولُه في ثلاث ساعات فقط!!
هذه مَعَرّةُ الدهر لجيشٍ أنجحَ أربعة انقلابات في خمسين سنة، بعد أن أسقط قائدُه الأولُ نظامَ خلافة استمر أكثر من ألف وأربعمائة عام، وتجذرت فيه العلمانية الأتاتوركية تجذر الظفر في اللحم!!
لماذا فشلوا إذن ؟!
فتش عن القوة .. مبدأ الأمر ومنتهاه ، وما حولها أدوات مساعدة.. كلُّ أداةٍ بقدرها!!
الشعبُ بعد القوة.. والنخبة الحزبية العلمانية بعد الشعب.. ولا بأس عندي أن تضع نجاة أردوغان قبل الشعب وبعد القوة في الترتيب!!
لا تُغفل الشعب الذي خرج للحفاظ على كيانه من أوباش العسكر مصاصي الدماء.. ولكن قذيفة واحدة من طائرة انقلابية كفيلة بإعادة الناس إلى منازلهم ما لم تُسقطها قذيفة مضادة من مدفع أو طائرة موالية!!
لا تغفل رؤوس النخبة الحزبية العلمانية التي حسبت المكاسب والخسائر محمَلةً بذكريات سوداء عن انقلابات تركيا المتتابعة دون أن يكون شرف المبدأ عاملاً جذرياً في رفض الانقلاب.. فالشرف_غالباً_ كلمة لا محل لها من الإعراب في عالم السياسة.. والعلمانيون عامةً والشرقيون منهم خاصةً كدود الأرض؛ يتخلقون في الجِيَف ويعيشون عليها.. وإذا كانت الديكتاتورية بحراً فالعلمانيون أسماكه؛ إن خرجوا منه ماتوا.. وأغلب ظني أن مصلحة رؤساء الأحزاب تحديداً اقتضت البقاء مع أردوغان الذي يتهمونه_مناكفةً_بالديكتاتورية، بدلاً من الارتماء في أحضان الدكتاتورية العسكرية التي ارتموا في أحضانها سابقاً فعرفوا أنها كالفريك الذي لا يحب الشريك!!
هذه هي الأسباب الكبرى التي أدت لفشل الانقلاب في ظني.. ولو نجح الانقلاب لكان غيابُها سبباً في نجاحه سواءً بسواء!!
أما الذين يقارنون الشعب التركي في 2016م بالشعوب العربية في ثوراتها الحالية فهم مخطئون جداً.. ربما لأنهم لا يعرفون أن تركيا أمُّ الانقلابات وأبوها: انقلاب الستينات الذي افتتح دهليز الانقلابات العسكرية، ثم انقلاب السبعينات الذي سُمي (انقلاب المذكرة)؛ لأن العسكر لم يكلفوا خاطرهم بتحريك الدبابات؛ بل أرسلوا مذكرة للحكومة فسقطت دون أن يهتز شاربٌ تحت أنف أحد، ثم انقلاب الثمانينات الدموي، ثم انقلاب التسعينات الأبيض على أربكان ذي التوجه الإسلامي، والذي سُمي (انقلاب ما بعد الحداثة)؛ لأنه تم بهدوء_كالسكين في الحلاوة_ دون اعتراضٍ شعبوي أو نخبوي أو حلٍ للبرلمان أو تعليقٍ للدستور.
الشعوب نسقٌ واحد، أو تكاد تكون نسقاً واحداً.. لا يتظاهرون إلى الأبد دون قوة تحميهم أو قيادة واعية تُرشدهم وتُرَّشدهم.. وإذا كان لا بد من المقارنة فلنقارن الشعب التركي في2016م بالشعب التركي ذاته في1980م حين وقع الانقلاب الثالث على التوالي في مسيرة انقلابات تركيا الموعودة بانقلاب كل عشر سنوات تقريباً!!
استطاعت الدولة التركية العميقة تهيئة الأجواء الاجتماعية والسياسية لتقبل انقلاب السفاح كنعان إيفرين؛ فأشاعت الفوضى، وعرقلت مسيرة الديمقراطية المزعومة، وخنقت المجال السياسي العام، ودعمت إنشاء جماعات قومية متطرفة ذات توجه يميني ويساري، وساهمت في نشر الرعب والخطف والقتل وقطع الطرق والهجوم على مؤسسات الدولة وحرق مقرات الأحزاب والمقاهي والفنادق والمطاعم السياحية، وأشعلت الفتن الطائفية بين طوائف الشعب حتى وصل معدل القتل سنة 1979م إلى عشرين قتيل في اليوم الواحد.. إضافة إلى ترتيب المظاهرات والاعتصامات العمالية اليومية التي أدت إلى توقف المصانع عن العمل وتغول البطالة والفقر والمخدرات والدعارة!!
لقد تم تهيئة الشعب للانقلاب من خلال إشاعة الفوضى أولاً، ثم التركيز على تصوير المؤسسة العسكرية (خير أجناد الأرض!!) كملاذٍ آمنٍ للشعب التركي الذي لم يكن يدري_في عمومه_ أن مؤسسته تلك هي السبب المباشر في فساد وإفساد الحياة في تركيا!!
وقع الانقلاب المصنوع أمريكياً، واستقبلَه كثيرٌ من الشعب التركي بالترحاب والبهجة!!
ولو بحثتم في أرشيف تلك الأيام (لربما) عثرتم على نسخة تركية مشابهة لـ(تسلم الأيادي) و(قوم نادي ع الصعيدي) و(إحنا شعب وانتو شعب) و(إيفرين لعبها صح)!! .. وربما وجدتم أيضاً كلماتٍ لثعالبِ دينٍ تقول للعسكر (اضرب في المليان) و(ريحتهم نتنة) و(طوبى لمن قتلهم وقتلوه) .. أما جبهات الإنقاذ البرادعية النخبوية، ونشطاء السبوبة، والداعون إلى انتخابات رئاسية مبكرة، والسائرون نياماً في حزب (تركيا الطرية)، وأصحاب اللكلك الفارغ عن الوصاية العسكرية، والعلاقات المدنية العسكرية، والتافهون الذين ظلوا يكتبون بعد الانقلاب: (سليمان ديميريل سيء الذكر)، والصبيان الذين (للأسف كانوا يعرفون)، والسذج الذين كانوا يقولون:(إخوانا اللي فوق فاهمين.. وإيفرين في جيبنا).. وغيرهم ممن ابتُليت بهم مصر في ثورتها.. فيقيني أنكم كنتم ستجدون العشرة منهم بليرة في تركيا الثمانينات.
جلس الجميع على الخازوق.. وسكن الجنرالُ القصرَ بَدَلَ الثكنة ففسدت الثكنةُ والقصرُ معاً.. وبدأ عصر الإرهاب البشع باعتقال مئات الآلاف، ومحاكمة مئات الآلاف، وفرار الآلاف، وإقالة الآلاف، وإعدام المئات، وانتحار العشرات، وتقييد أسماء مليوني مواطن تركي واعتبارهم خطراً على الأمن القومي.. ولاحقاً قال إيفرين
في إشارة إلى من أُعدموا بعد الانقلاب:"هل كان علينا أن نطعمهم في السجن لسنوات بدلاً من شنقهم"؟!
وسقطت سمعة الأتراك إلى الحضيض حتى إنني لا زلت أذكر أن الصورة المتخيلة للرجل التركي في أذهان أبناء جيلي أواخر التسعينات لم تكن تخرج عن صورة (الحلاق الماهر) و(معلم الشاورما والمشاوي) و(رجل العصابات) الشرير الذي يظهر دائماً بين فتاتين جميلتين شبه عاريتين!!
تغيرت الصورة تماماً بمجيء أردوغان.. واستطاع الرجل أن يذيقهم قدراً كبيراً من عسيلة الأمن والأمان والرخاء والحرية والرفاهية.. مع عودة الإحساس القومي بالعنصر التركي الذي ساهم في حكم الدنيا منذ اصطنعه المعتصم ابن(ماردة) التركية وهارون الرشيد العباسي، مروراً بسيطرته على مقاليد الخلافة، وانتهاءً بسقوطها به ومعه!!
الشعوب إذن تتغير بتغير العوامل سلباً وإيجاباً، والتهيئة النفسية لتقبل الانقلاب على أردوغان لم تحدث، وإن كان حدث بعضُها فلم تؤت ثمارها؛ لأن أردوغان عمل _بما قدمه للشعب منذ 2002م_ على تهيئته نفسياً واجتماعياً واقتصادياً لرفض أي انقلاب قادم.. وقد نجح مع الشعب التركي وفشل مع النظام الأتاتوركي!! ومجرد حدوث الانقلاب _رغم فشله_ دليل على ذلك.
القوة أولاً.. وما بعدها تَبعٌ لها.. وقد لا أكون متجاوزاً إن قلت إن (حالة الانقلاب وحالة إسقاطه معاً) حدثتا داخل إطار الدولة بين جناحيها المتصارِعَين المسلّحَين قبل حضور الشعب.. وكان الجناح الأضعف ناصراً والأقل عدداً هو جناح أردوغان الذي قَوّى حضورُ الشعب_بعد ذلك_ ضعفَه وأكملَ نقصَه؛ فرجحت كفة فشل الانقلاب على كفة نجاحه.. وقد رأيتُ ورأى غيري بعضَ اللقطات المصورة لمجموعة من الناس تخاطب _بهدوء وحكمة_ جندياً فوق دبابة.. وكأنها تستثير فيه النخوة الوطنية ليعود من حيث أتى.. كان الجندي يرد عليهم بلامبالاة واضحة حتى جاءت مجموعة من الشرطة (المسلحة) أو القوات الخاصة التابعة لأردوغان مصحوبة بالتكبيرات والهتافات؛ لتتغير نفسية الناس وتتصاعد داخلها وتيرة الرفض ثم تعتلي الدبابة وتساعد في اعتقال الجندي!!
في مصر.. كان الثوار يفعلون ذلك مكتفين باستثارة وطنية الجنود والضباط؛ لأنه لم يكن بجانبهم شُرطي مسلح يساعدهم في اعتقال الجندي المسلح.. وقد اكتشفوا بعد تجربة مريرة أن الرجل العسكري لا يقتنع _غالباً_ إلا بالقوة، وأن الوطنية عنده غير الوطنية عندنا، وأنه لا يفهم في حياته شيئاً غير إصدار الأوامر أو تنفيذها، وأنه لا يرى في المواطن المدني سوى طفل يتيم قاصر لا بد من وجود ولي أمر له يدبر شؤونه وينظم حياته ويحافظ على ماله.. (ويسرقه أحياناً.. أو دائماً)!!
عقلُ العسكري _إن كان يملك واحداً_ لا يعمل غالباً بذات الآلية المنطقية التي يعمل بها عقل المدني.. وليس أضيعَ من وقت تنفقه في إقناع رجل عسكري بالعدول _طوعاً_ عن أمر أصدَرَهُ لينفذه غيرُه، أو أمرٍ تلقاه لينفذه هو!!
لقد خرجت شعوب الثورات العربية بكثافة للحفاظ على ثوراتها من مصاصي الدماء، والمواقف التي شهدتها بنفسي أكثر من أن تُحصى.. بيد أن هذه الشعوب افتقدت لأمرين مهمين: القوة الحاسمة، والقيادة الواعية.. والعار _إن جاز أن نَصُبّهُ على رأس أحد_ فلن يُصبَّ إلا على رأس تلك القيادات التي فشلت _على سبيل المثال لا الحصر_ في الحفاظ على مظاهرة واحدة مثل مظاهرة رمسيس الضخمة.. والأمثلة بعد ذلك قاتلة للقلب والروح لا أحب الخوض فيها أو تذكرها!!
حالنا الآن يشبه _إلى حدٍ كبير_ حال تركيا في الثمانينات.. وليس حتماً أن نستغرق كل هذا الوقت لنصل إلى ما وصلوا إليه؛ فإن التغيير في كل منطقة مرتبطٌ بأحوالها ومواضعاتها وأنساقها.. وأغلب ظني أن المنطقة كلها مقبلة على تغييرات جذرية قد لا تُعطي الفرصة لتغيراتٍ تقليدية.. وإن ذلك لحسنٌ في عمومه رغم ما سيُصاحبه من أهوال!!
وأظنني لن أكون مبالغاً إن قلت: إن المقارنة بين أردوغان ومرسي _غفر الله له وفك أسره_ لن تكون في صالح أردوغان.. فمجرد حدوث الانقلاب بعد كل تلك السنوات من العمل والتدرج في التمكين؛ دليلٌ على فشل كبير يقع وزرُه على أردوغان وصحبه، خاصةً وقد اكتسبوا _من الخبرة الطويلة في الحكم_ عقليةً واعيةً تُحسن التصرف في الملمات.. وهو ما لم يتهيّأ لمرسي وصحبه.. وكلامنا هذا ليس فيه أدنى تبرير لأخطاء مرسي.. بل هو فَهمٌ خاص لا بأس عندي في مناقشته أو رفضه.
بيد أن أردوغان أحسن النهوض بعد عثرته، واستغل الفرصة لإحكام سيطرته.. ولأن الضعفَ مُسقطٌ للتبعات؛ فإن القوةَ مَجلَبةٌ لها.. وإني لأخاف على أردوغان ومنه في وقت قوته؛ أكثر مما أخاف عليه ومنه في وقت ضعفه؛ فما يُمكن أن يُعتَذَرَ به للضعيف قليلِ التمكين لا يُمكنُ أن يُعتذرَ به للقوي المتمكن.. إلا إذا أَدْخَلَنَا (إخوانُنا الطيبون) في متاهة درجات التمكين المتتابعة؛ فكلما تمكن من مِفصل قالوا بقي مِفصل؛ فإذا تمكن منه قالوا بقيت مفاصل.. وهكذا دواليك حتى تكاد تظن أن التمكين لا يتم إلا بامتلاك العالم!!
يبدو الأمر سابقاً لأوانه.. ولكني أظن أن أول ما سَيُقال بعد قليل: ها قد سيطر فكان ماذا؟!
ومقتلُ أردوغان في هذه الـ(ماذا)!!
لقد كسب أردوغان جولةً.. ولكنه يعلم أن أمامه جولات وجولات.. فهل سيخضع حفاظاً على مكتسباته معتبراً ما حدث (قرصةَ أذنٍ) إن لم يعتدل كما يريدون ستتبعها قرصات.. أم سيوغل في تحطيم القرص الصلب للدولة الأتاتوركية وصناعة قُرصٍ آخر في منطقة يعتبر الصليبيون العبثَ بأُسسها التي وضعوها مسألةَ حياة أو موت؟!
إن الهجمة الإعلامية الغربية الشرسة على إقالات وتوقيفات أردوغان للانقلابيين تدل على ما يمكن أن يحدث من هذه الخنازير الديمقراطية المتوحشة التي لم تنبس ببنت شفة حين حُكِم بالإعدام على رئيس جاء بالديمقراطية في الوقت الذي هاجوا فيه وماجوا لأن رئيساً جاء بالديمقراطية يحاول الحفاظ على مكتسبات شعبه الديمقراطية من العسكر أعداء الديمقراطية.. وقد بُحت أصواتنا ونحن نقول إن الديمقراطية عندهم ليست أكثر من صنم عجوة إن جاعوا أكلوه!!
لقد أذل أردوغان غلمانَهم؛ فأخرجهم أمام الكاميرات في صورة مزرية ناكسي رؤوسهم لا يرتد إليهم طرفهم وأفئدتهم هواء.. جنرالات، عمداء، عقداء، قادة، كانوا قبل قليل ملء السمع والبصر؛ فأصبحوا لا يُرى إلا ذلهم وانكسارهم وحقارتهم.. وهذه صورة لا يمكن أن يسمح السادةُ بظهور أذنابهم فيها.
خطورة الصورة تكمن في ما تُرسّبُه في النفوس من معانٍ جديدة تكشف للناس أن هذه الطواويس المنتفخة يمكن أن يعتقلها (شابٌ ملتحٍ) مقيدةَ اليدين للخلف مطأطأة الرأس ذليلة النفس لا تملك من أمرها شيئا.. هذه الصورة كانت حكراً على المسلمين والعرب وأعداء الغرب عموماً.. فعلوها مع صدام، كما فعلوها مع آساد غوانتنامو، كما فعلوها مع مظاليم أبو غريب، كما فعلوها مع المجاهدين في كل مكان.. وربما تفعل الصورة ما لا تفعله الجيوش والأساطيل فتقتل النفوسَ وتُحبط العزائم قبل أن تتحرك الجيوش والأساطيل!!
وهاهو أردوغان يستخدم (أسلوب الصورة) لتتجذر في نفوس الناس إمكانيةُ تكرارها في أماكن أخرى.. وإذا سقطت هيبة الغلام سقطت هيبة سيده، وإذا سقطت هيبة السيد كان كالبعير الذي إذا وقع كثرت سكاكينه!!
بيد أن أردوغان في وضعٍ لا يُحسد عليه.. فهو إن اعتدل لهم اعوجّ للعالم الإسلامي وللفكرة التي يحرص على ارتداء عباءتها.. وفي ذلك مقتله عندنا!!
وإن اعوجّ لهم اعتدل للعالم الإسلامي وللفكرة التي يحرص على ارتداء عباءتها.. وفي ذلك مقتله عندهم!!
وهما أمران أحلاهما مُر.. غير أني لم أعد أستسيغ الفكر التلفيقي الذي يقوم على التوظيف المُريب للحديبية، وثلث تمور المدينة، والفترة المكية، وفقه الواقع، ودرء المفاسد المقدم على جلب المصالح.
لم أعد أستسيغ أن يخبرني (إخوانُنا الطيبون) أنني إن لم أقبل قتلَ مائتي مسلم في (منبج) فإن ثلاثمائة مسلم سيُقتلون في (طرابزون).. وكأن حُسن السياسية لم يعد يمر إلا على أشلاء المسلمين!!
أعرف أن الواقع مربكٌ ومتشابك.. ورفع سقف التوقعات يُنتج _غالباً_ إحباطاً ويأساً، ولكن حَصْر الناس بين السيف والجدار مناقضٌ لسنة التدافع الثابتة.. ومن المعيب أن يُنجينا الله من الغرق بمعجزة ثم نكون كالذين قالوا اجعل لنا إلهاً كما لهم آلهة !!

الأربعاء، 13 أبريل 2016

إنهيار آخر حصون العقلية الاستعلائية المصرية



كتب عصام شرارة

أتذكر وأنا في بداية مرحلة الشباب أني كنت أجد صعوبة كبيرة في تمييز وفهم كلمات أغاني فيروز باللهجة اللبنانية و انت هناك كثير من الكلمات التي حفظتها خاطئة ولم اكتشف ذلك إلا بعد خروجي من مصر واحتكاكي بمعظم الجنسيات العربية عن قرب وبمرور الوقت استطعت فهم اللهجات المختلفة والأهم استطعت فهم الفروق النفسية والشخصية بين هذه الجنسيات ومنها بالطبع جنسيتي المصرية التي تعلمت عنها أشياء لم أكن أعلمها قبل خروجي من مصر .

غذى الإعلام الناصري وما بعده وما تم حشوه في الكتب الدراسية عملية التمحور حول الذات في الشخصية المصرية وبناء حصون للشخصية الاستعلائية التي ترى نفسها أفضل من محيطها العربي بل وأحياناً الدولي استناداً إلى (التاريخ و الجغرافيا) و(أسبقية المدنية والتحضر) و(الثقافة) و(الإعلام) و(الريادة الدينية) و(الجيش ، مصدر الفخر الوطني المبالغ فيه) .

بدأ اغتراب المصريين وسفرهم للعمل في الدول العربية منذ الخمسينات في القرن الماضي ولكنها كانت في معظمها عمليات إعارة لموظفين كالمدرسين والقضاة ثم تلتها في الستينات خروج كثير من أعضاء الإخوان المسلمين هروباً من بطش السلطة ولكن معظم هذه الحالات لم تكن تمثل احتكاك شعبي حقيقي بين الثقافات العربية ولكني أعتبرها احتكاك نخبوي استطاع من خلاله المصريون التأثير في الدول التي سافروا إليها ولكن لم يحدث العكس وظل المصريون يجهلون طبيعة محيطهم العربي وكل الأفكار عنه تكونت من الأفلام السينمائية بمبالغاتها الكوميدية .

في منتصف السبعينات وبعد حرب 73 وما تلاها من أزمة اقتصادية طاحنة وحالة تضخم كبيرة جداً أدت لإزاحة معظم الطبقة الوسطى للأسفل بدأت موجة السفر والاغتراب الكبرى والمستمرة حتى الآن والتي اتسعت لتشمل معظم دول العالم ولكن يظل الجزء الأكبر منها في دول الخليج العربي ومن قبل كان في العراق وليبيا ، وأدى ذلك لاحتكاك شعبي حقيقي وعلى نطاق واسع ، وشهد هذا الاحتكاك الشعبي الواسع للثقافات على مدى سنوات تقترب من الأربعين مراحل عدة بدأت بتحصن المصري بكافة حصونه الاستعلائية نظراً لأحوال الدول العربية وخاصة الخليجية وتأخرها التعليمي والحضاري في البدايات، ثم مع مرور الزمن بدأت حصون هذه العقلية الاستعلائية تنهار واحداً تلو الآخر نتيجة قيام المحيط العربي بالتحرك للأمام مع ثبات مصر وممارستها الحركة في المحل وأحياناً الرجوع للخلف.

أول الحصون إنهياراً كان (أسبقية المدنية و التحضر) نتيجة ما رآه المصريون من تطور سريع في دول الخليج في مجالات العمران والتعليم والصحة والخدمات التي تقدم للمواطنين وتطور الحياة المدنية والنظافة والتنظيم في الشوارع مقارنة بالانحدار الذي كانت تسير به مصر .

ثم أتى الدور على حصن (الريادة الدينية) التي كان يمثلها الأزهر، فبعد عملية الإخصاء التي قام بها عبد الناصر للأزهر اضمحل دوره كثيراً وفي نفس الوقت أنفقت السعودية مبالغ طائلة على نشر ثقافتها السلفية وطباعة الكتب وتوزيعها وتعليم الدعاة فكان أن سيطرت الدعوة السلفية من نهاية السبعينات على الفضاء الدعوي في مصر وملأت الفراغ الذي تركه انحسار دور الأزهر ورداءة مخرجاته وتحوله إلى كيان بيروقراطي كجزء من الجهاز الحكومي المصري.

ومع ظهور الأقمار الصناعية بدأت الدول العربية في تطوير إعلامها وانطلقت الجزيرة التي تقدم إعلام مهني ومختلف تمام الاختلاف عن النمط الحكومي السائد وأظهرت تفوقاً جباراً دفع دولاً كثيرة للحاق بركبها مما أدى لانحسار دور الإعلام المصري المغرق في الذاتية والمقيد بشدة. إنهار إذاً حصن (الإعلام) في الألفية الجديدة وظهر الإعلام المصري بطيئاً متخلفاً في تقنياته وكوادره ومعالجاته وحتى مع ظهور القنوات الخاصة ظلت الفروق تتسع وتشعر الإنسان المصري أن التفوق الإعلامي لم يعد موجوداً.

ومع تطور الإعلام العربي وظهور وانتشار الإنترنت بدأ انهيار حصن آخر وهو (الثقافة)، فسنوات الجفاف الثقافي المصري وتسييس الثقافة أدى لانحسار الريادة واختفاء الرواد وأظهرت ثورة المعلومات أن الثقافة ليست حكراً لمصر والمصريين وأن الشعوب حولنا يوجد لديها مثقفون وأن اهتمامهم بالتعليم أنتج أجيال جديدة مختلفة تتميز ليس فقط بمحاولة الصعود المستمرة ولكن بتكون ثقافتهم نتيجة احتكاك بجنسيات وثقافات كثيرة سواء من العاملين في تلك الدول أو من خلال بعثات التعليم في الخارج لأبناء هذه الدول .

إنهيار الحصون السابقة ترك ندوباً في الشخصية المصرية وجرح كبريائها وجعلها تتشبث أكثر بآخر حصونها وهو (التاريخ و الجغرافيا) و(الجيش) وتحول الفخر الوطني إلى تغني بما مضى وتعظيم وإجلال مبالغ فيه جداً للجيش رغم أن الظروف تغيرت وثورة المعلومات أتاحت الكشف عن الكثير من عمليات تزييف التاريخ وكذلك الجيش المصري ومهامه وعقيدته تغيرت وأحوال مصر السياسية والاقتصادية لم يعد فيها ما يستحق الفخر بل في الحقيقة كنا في حالة انحدار مستمرة .

أتت الثورة في يناير 2011 لتملأ فراغاً موجعاً في الشخصية المصرية ولتصنع حصناً جديداً للشخصية المصرية وهو (الحرية و الكرامة) يعوض ما انهار من حصون ويدفع من جديد للريادة، وبقدر الصعود السريع لمشاعر الفخر بهذا الحصن بقدر السقوط المريع له وتحطيمه بأيدي أحد حصون الشخصية الاستعلائية المصرية وهو (الجيش)، وأثناء سقوط هذا الحصن إنهار حصن (التاريخ والجغرافيا) بعد انكشاف معظم عمليات تزييف التاريخ التي تعرضنا لها وحدثت حالة صدمة كبيرة وانفصال مؤلم بين حاضرنا وتاريخنا وتطورت لكراهية جزء كبير من المصريين لهذا التاريخ. هذه الصدمة الكبيرة والمؤلمة أدت لتمسك جزء كبير من المصريين بالحصن الأخير وتفضيل الخضوع له بكل مساوئه على أي بديل آخر، إنه نوع من تشبث الغريق بالقشة المتاحة والتي لن تمنعه من الغرق ولكنه يريد أن يوهم نفسه أنها ستفعل لذلك لا يصدق كل من يحذره منها.

و هنا وضع الجيش نفسه في موقف المنقذ للدولة والشعب وسيطر صراحة على مفاصل الدولة والحكم ولكنه لعدم كفاءته السياسية والإدارية ولأطماع قياداته هدم بيده الحصن الأخير للشخصية الاستعلائية المصرية ، وتوالت الشواهد على هذا السقوط والناس لا تريد أن تصدق وتمر بمرحلة إنكار عنيفة نزعت العقل والمنطق منهم ولكن في النهاية انتصرت الحقائق وكان موضوع التخلي عن حقوقنا في النيل ثم التخلي عن جزر تيران وصنافير بمثابة صدمة الإفاقة وبداية لانهيار الحصن الأخير.

الشخصية المصرية الآن في حالة صدمة وتشتت وشعور مر بأنه لم يعد لديها شئ لتستند عليه وأن صورتها الذهنية التي تكونت على مدار عقود طويلة انهارت وظهرت صورة قبيحة يستخف بها العالم كله ويتطاول عليها من كنا نعدهم بالأمس عرب أجلاف.

معضلة كبيرة وصدمة حضارية من الصعب جداً علاجها أو توقع نتائجها على المدى القصير والطويل.

كان الله في عون مصر والمصريين...

الجمعة، 25 مارس 2016

ليته يسكت...



كتب الأخ عمار مطاوع -الذي أتابعه متابعة أحادية الطرف ولا زلت- منشورا عن موقفه من الشرعية وعودة الدكتور مرسي والاصطفاف والانقلاب والتجربة الإسلامية ممثلة في الإخوان، وقد شاركت منشوره مصحوبا بتعليق مني يفسر لم كنت أرى أن بعض منشورات عمار صادمة بالنسبة لي، فقد جمع في منشوره سالف الذكر ما يشير إلى سطحية في معالجة الأمور وافتقاد للرؤية، وظننت أن مشاركة المنشور بهذا التعليق كافية لتوصيل الرسالة، وعلى رغم ما قد كتبه في مواضيع أخرى -ورأيته صادما- إلا إنني لا أتذكر أنني علقت عليه أو أوضحت وجه الخلاف، بيد أني شعرت أن هذا المنشور تحديدا له عظيم التأثير على أسس تحديد معالم الصراع وميدان المعركة الحاليين، ويشتت الصفوف بدلا من حشدها، فعمار له متابعون كثر، ومن حيث أن بعض الإخوة قد راجعني في تعليقي على منشور عمار اختلافا معي وتأييدا له، فقد رأيت أن أكتب هذه الكلمات ببعض التفصيل شارحا لماذا أخالف ”قناعات“ عمار حسب وصفه.

"باختصار.. أنا عمر مشكلتي مع السيسي ما كان ليها أي علاقة بالدكتور مرسي، ولو السيسي كان سيطر ع البلد بعد 30 يونيو، وأدار المشهد من غير غشومية وظلم واصطفاء للأوساخ.. ماكنش هيبقي عندي أي مشكلة حالية معاه، وبالعكس كنت هأشوفه تصرف حكيم وإنقاذ للبلد.. لكن للأسف عمر ديل العسكر ما تتعدل.."

يبدأ عمار عرض قناعاته بتحديد أصل خلافه مع السيسي، والحقيقة أن خلافنا نحن مع السيسي ليس متعلقا بالدكتور مرسي أيضا، فخلافنا مع السيسي متعلق بداية وانتهاء بسطوه على حق الأمة وسلبه إرادتها في اختيار حكامها وتحديد مصيرها، وهو حق أصيل في كل المذاهب الفكرية والسياسية التي استقرت البشرية على قبولها عبر التجارب الانسانية والاجتماعية المتعاقبة، وهو أيضا أصل من أصول السياسة الشرعية في الإسلام، وللدكتور حاكم المطيري تفصيل نفيس في هذا الباب في كتابه (الحرية أو الطوفان)، وكذلك أوضح الدكتور الريسوني في مقالته (إمامة المتغلب بين الشرع والتاريخ)، فلا أدري ما هي المرجعية الفكرية التي استقى منها عمار قناعته التي ذكرها.

أما عن ”الغشومية والظلم واصطفاء الأوساخ“ فهذه جرائم يستوي فيها كل من ارتكبها بصرف النظر عن الطريقة التي وصل بها إلى السلطة، أي أن ارتكاب تلك الجرائم لا ينزع شرعية ولا الامتناع عنها يجلب شرعية، بل إن الكلام الذي ساقه عمار في معرض توضيح الحد الذي يقبل أو يرفض به فعل السيسي ليس إلا مغالطة منطقية معروفة، وهي المجادلة بالنظر إلى النتائج، وذلك لأن دعم قضية ما اعتمادا على انتهائها بنتائج مرضية لا يدل على أنها صحيحة، فالمجادلة هنا تعتمد على مناشدة آمال الجمهور، وكما يقول ديفيد هاكيت فيتشر: ”لا يلزم من الصفات التي ترافق النتيجة أن تنتقل إلى السبب“

"أنا مش مع مطلب عودة مرسي، وشايف إن شعار الشرعية نفسه حاجة هلامية مش مفهومة، ومش عارف الشرعية بتاعت شخص بتحتاج إيه أكتر من نزول كذا مليون ضده عشان يقولوه ارحل!"

يعود عمار مرة أخرى إلى شخصنة المواقف، معتبرا إن سوء مرسي يقف عائقا أمام المطالبة بعودته، ولو أنه أرجع الأمر إلى أصله، لأدرك أن مطلب عودة مرسي ليس مرتبطا بشخص مرسي وإنما يتعلق بمبدأ إنفاذ رغبة الأمة واحترام اختيارها، وهو المبدأ الذي يجب أن ينسحب على كل من يشغل منصب الرئاسة باختيار الشعب.

ثم يقع عمار في مفارقة عجيبة حينما يدعي إبهام شعار الشرعية حينما يطالب به المطالبون، بينما يقبل نزع الصفة حينما يعترض المعترضون، أليس عجيبا أن نلغي شيئا لا نقر وجوده ابتداء!

ثم إن الملايين التي خرجت على مبارك لم تنزع عنه الشرعية حتى يقاس عليها الملايين التي خرجت على مرسي، مبارك لم يكن يوما حاكما شرعيا، هو فاقد للشرعية ابتداء، أي أن الخروج عليه لم ينشئ صفة فقدان الشرعية، بل كان الخروج عليه ممارسة عملية -تأخرت كثيرا- لحق الأمة في إقرار اختيارها ورفض ما دون ذلك.

"حاجة أهم، أنا مش بس مش مع مطلب عودة مرسي.. أنا ضد المطلب ده، ولو رجع تاني هأنزل ضده، ورافض تماما إن أي طرف من أطراف الأزمة يكون علي رأس الأمر، وشايف إن اول خطوة في حل الأزمة دي هيا إن كل وجوهها القديمة بما فيها البرادعي ودرويشه تختفي، وكل خياراتهم ومعاركهم تتهد.."

يخلط عمار بين حق الأفراد في ابداء الرأي، وبين استخدام المعارضة لهدم ما توافقت عليه الأمة جميعها، فقد توافقت على طريقة اختيار الحاكم، وطريقة محاسبته، وطريقة استبداله، ولم تستنفذ سبل المحاسبة والاستبدال حتى ننظر في وسائل أخرى كضرورة تبيح المحظور، ثم إن قبول مبدأ الخروج على أي حاكم شرعي بمجرد الاعتراض على سياسته وأفعاله ليفتح باب الفوضى والاضطراب، ولن يستتب الأمر لحاكم، ولسوف يعود ذلك على الأمة بالفشل وانعدام الاستقرار.

ثم يقع عمار في مأزق عويص عندما يساوي بين أطراف الأزمة في ضرورة الاختفاء من المشهد، حيث يرى أن الشعب ليس طرفا في الأزمة، ويسوق ”هدفا“ وهو الاختفاء على أنه ”خطوة“ في الحل، فالخطوة هي جزء من أفعال يراد من تنفيذها تحقيق الهدف، فكيف يكون الهدف في حد ذاته جزءا من نفسه! ثم إنه يرى أن الباغي والمبغي عليه مخطئان، وهو بذلك يخالف سيرة خليفة رسول الله عثمان بن عفان رضي الله عنه، ويطالب بمعاقبة الباغي والمبغي عليه، كالمدرس الذي يعاقب التلميذين الضارب والمضروب، أو الأم التي تحرم طفليها من لعبة أحدهما لأن الآخر نازعه فيها، منطق غريب لا ينصر حقا ولا يردع باطلا.

"معلومة كمان، أنا شاركت في مظاهرات ضد مرسي أيام تكريم طنطاوي، وقلت لأ في استفتاء 19 مارس"

وما زال استفتاء 19 مارس مطية كل من يريد اثبات نفاذ بصيرته وصحة اختياره بادعاء أنه قال ”لا“ في الاستفتاء، ولا أدري لماذا يصر هؤلاء على التعامي عن حقائق واضحة كالشمس، الخطأ لم يكن خطأ المفاضلة بين ”نعم“ و ”لا“، بل كان قبول الاستفتاء من الأساس، وقد وقع الجميع في هذا منذ لحظة مغادرة الميدان والموافقة ضمنيا على تسليم الدفة للمجلس العسكري، الحقيقة الثانية أن المجلس العسكري وضع اختيارا واضح الخطوات وهو ”نعم“، وجعل الاختيار الآخر ”لا“ مبهما لا تعرف نهايته، فكان من الطبيعي بل والأصح أن يختار العاقل ما يعرف نهايته وكيف السبيل إلى بلوغها، وأن يرفض كل الخيارات التي تدخلنا في متاهات أخرى، أما الحقيقة الثالثة وهي الأكثر تسببا في الوضع الحالي، أن العسكر لم يلتزم بما استفتى الناس عليه، ولم ينفذ خارطة الطريق التي تفرضها ”نعم“، ثم نعود مرة أخرى إلى نفس المغالطة المنطقية الأثيرة لدى عمار، وهي المجادلة بالنظر إلى النتائج، فهو يفترض صحة خيار ”لا“ بالنظر إلى نتيجة خيار ”نعم“.

"أنا نزلت رابعة، نزلت بعد أهلي بحوالي أسبوع، بس لا نزلت عشان عودة مرسي، ولا عمري رددت هتاف بيطالب بعودته"

لماذا نزل عمار رابعة؟ مبلغ علمي أن حتى تلك اللحظة لم يكن السيسي قد ارتكب ما يدعي عمار أنه سبب معارضته للسيسي، ”الغشومية والظلم واصطفاء الأوساخ“! فلماذا نزل عمار؟ يبدو أن عمار يحتاج إلى إنعاش ذاكرته بجهد أكبر من جهده في إقناعنا بأنه لم يغير أفكاره أو يتحول حسب قوله.

"وبجملة الاعترافات بقي، أنا مش ضد الاصطفاف في ذاته، أنا بس ضد العنجهية اللي بيتعامل معانا بيها التيار العلماني الوسخ، وضد التذلل اللي بنشوفه من رموز التيار الإسلامي اللي بيمثلونا في أي قناة أو حوار أو اتفاق.. رافض إنهم يحسسونا إنهم بيمنوا علينا عشان إحنا اللي في المعمعة وفي وش المدفع ومحتاجين النصرة.."

الحقيقة أن الجملة الختامية التي أكد عليها عمار بقدر ما هي مؤسفة، إلا إنها تتسق تماما مع مجمل منشوره، الاهتمام بالشكليات والتغاضي عن الأسس، الخلط بين الحق والباطل بدلا من المفاصلة، فليس غريبا على من اعترض على السيسي لغشوميته، أن يبدي تقبله لمؤيدي السيسي إن تنازلوا عن عنجهيتهم.

بقي أن أقول لعمار أن عنجهية الليبراليين المزعومة، هي العزة بالإثم المذمومة، والتي أرجو من الله ألا يصر عليها، وأن يعود إلى جادة الصواب فيقول الحق، أو ليته يسكت.

الثلاثاء، 29 ديسمبر 2015

لن يستدل على العنوان...(9)


.........
بداية غريبة لرسالة...
ولكنني لا أستطيع مناداتك باسمك...
ليس خشية من الحاسدين...
إنما خوفا من توابع اعتياد مناداتك...

ولا أريد أيضا أن أبدأها بعزيزتي...
فقديما درست أن على المتعافي من الإدمان (أومن يريد ذلك) أن يبتعد عما يذكره بحالة الإدمان...

اعتقد أني قد تكلفت كثيرا لتحاشي افتتاح الرسالة بما اعتاده الناس...
أرجو أن تقبلي ذلك حتى وإن كان على غير هواك...

كنت قد تساءلت عن سبب اختفاء قصص الحب التي تبدأ بعد الستين من حكاياتنا المسرودة؟
ولم أقنع بردود المشاركين في التعليقات...
لكنني منذ أيام عرفت السبب...
الحب شعور يناسب الطفولة...

أنا لا أنتقص من الحب أبدا...
الحب شعور فطري...
تفسده التجارب...
نعم...
الحب روعته في الانطلاق...
في التدفق بلا حساب...
في الانفلات من قيود المكسب والخسارة وتكافؤ المنح والأخذ...
في حرارة أحاسيسه وكلماته...

في إثارة الحواس الخمس جميعا وما دونها...
في الشغف والولع الذين يملكان على الإنسان تفكيره...
في الرغبة في عيش الآن...
في عدم الإحساس بمراقبة الآخرين أو وجودهم...
ألست أصف الطفولة!

يولد الطفل مندفعا شغوفا مولعا بالحياة...
إدراكه ينحصر في نفسه وفي لحظته...
يده تمتد بتلقائية لاكتشاف كل ما تقع عليه عينه...

يضعه في فمه بنفس التلقائية...
لا يخاف ولا يتردد...
ثم نبدأ تلقينه خلاصة تجاربنا...
فيكتسب مهارات الخوف والاهتمام بردود فعل الآخرين...
تقول الدراسات أن الطفل يولد بمعدلات ذكاء نسبية أعلى مما يكون عليها بعدما نلقنه تعليمات الحياة التي تلقيناها سابقا!

لن أجادل في فائدة اكتساب مهارات الحذر والترقب...
ليس اقتناعا...
ولكنها معركة خاسرة...
فنحن نتعهد أجيالنا المتتالية لننقل لهم تلك الخبرات والمهارات...
إنما يعنيني فقط فقد ذاك النقاء الفطري...

صدقيني...
أنا لست كما تظنين غير قادر على نسيانها...
إنما هي التجارب التي مررت بها...
فأفقدتني الاندفاع والشغف والتدفق...
وكبلتني بحسابات المكسب والخسارة...

أصبحت مهجوسا بالخشية من الفشل...
أنا رجل في الستين من العمر...
ما عدت قادرا على عيش الطفولة...
وإن تاقت نفسي لذلك...
وهذا ألم آخر...

تلك الجروح التي التأمت لا يبرأ منها الإنسان أبدا...
فقط هو ألم الجروح الذي ما عاد موجودا...
إنما ألم الندوب أعمق... ويدوم...

الثلاثاء، 24 نوفمبر 2015

أجهزة "طرب" مركزي...(فصل في الإصرار على الفناء)

 سايب المفاعل لوحده كاريكاتير للرسام هجرسي

"زفت" إلينا الصحف "القومية" خلال الأسبوع الماضي خبر توقيع اتفاقية مصرية روسية لإنشاء مفاعل نووي في الضبعة، ورغم رغبة تلك الصحف في إظهار التصريح في مظهر الانجاز الخارق الذي يمنينا بالرخاء، فقد تلقيناه قرارا "أخرق" يهددنا بالفناء.

الحقيقة أن لهذا النظام الانقلابي سابقة أعمال -من جهاز علاج الفيروسات إلى قناة السويس- تجعلنا نوقن حجم الكارثة التي نحن مقبلون عليها بهذا المشروع النووي، فليس خافيا على أحد أن كل المشاريع التي يعلن عنها منذ الانقلاب لم تكن رؤية استراتيجية تفرد بها هذا النظام، بل إنها أفكار طرحت منذ عهود سابقة، ولكن الأمر الذي يعنينا في الحكم على صواب قرار تنفيذ المشروع هو حسن الاختيار بين البدائل، وطرق التمويل، وشفافية التعاقد، وكفاءة الإدارة، وكلها أمور تجعلنا نتوجس الشر، فأما عن البدائل فقد علمنا حظ مصر الوافر من الطاقات المتجددة والتي لم نستثمرها حتى الآن، وهاهو طالب مصري مبتكر قدم مشروعا لإنتاج أكبر طاقة كهربائية من دمج ثلاث طاقات متجددة، يترك ليفر بمشروعه وأبحاثه وعقليته إلى الإمارات، وأما عن طرق التمويل فما هو الإبداع في التمويل بالقروض! وفي بلد يكاد أن ينسحق حرفيا تحت وطأة الديون المستحقة، وأما عن شفافية التعاقد فأين هم ممثلو الشعب الأمناء على مصالحه ليراقبوا ويحاسبوا ويسائلوا؟ وأما عن الكفاءة في الإدارة، فلكم أسوق هذه الحكاية.


منذ ما يقرب من عشر سنوات عملت لفترة طبيبا في موقع لشركة بترول "جنوب الضبعة" -يا محاسن الصدف-، وقد كان الانتاج الأبرز لهذا الموقع هو الغاز الطبيعي، رغم أنه لم يكن متوقعا استخراج الغاز من هذا الموقع، ولهذا فقد تم إجراء بعض التعديلات على التركيبات والإنشاءات والتوصيلات في الحقل حتى يتمكنوا من إنتاج الغاز، وكان من ضمن هذه التعديلات أن اضطر المهندسون لمد أنبوب معلق يمر به الغاز فوق مدخل المكان الذي به خزانات "السولار"، حيث أن مد هذا الأنبوب في الأرض يعرضه لأحمال ناقلات "السولار" التي تمر عبر المدخل لملء الخزانات، ولكن ارتفاع الأنبوب لم يكن عاليا بدرجة تسمح بمرور كل الارتفاعات المحتملة من أسفله، ولا أعلم إن كان هذا الارتفاع إجباريا أو"حكم صنعة" كما يقولون أم هو سوء تخطيط و"خيبة بالويبة" كالعادة...
وفي يوم من أيام عملي هناك، علمت أن مسؤول السلامة في الموقع قد أحيل للعقاب ثم عفي عنه، وذلك إثر محاولته إخراج ناقلة "سولار" مرت وهي مثقلة بحمولتها أسفل الأنبوب المعلق، ثم بعد إفراغ "السولار" في المخازن، ارتفعت عن الأرض فاصطدمت بالأنبوب عند الخروج، فما كان من مسؤول السلامة إلا أن إعطى أوامره لسائق "لودر" في الموقع بأن يأتي ليرفع الأنبوب قليلا حتى تستطيع الناقلة المرور أسفله!
مسؤول السلامة في موقع عالي الخطورة لم يكن مؤهلا لا بالدراسة ولا الخبرة ولا العقل للتعامل مع هكذا حادث، فمن الذي عينه في هذا المكان؟ ومن الذي عفا عنه قبل توقيع العقوبة؟

هكذا كانت تدار الأمور في عهد مبارك، "بالواسطة"، وفي عهد السيسي أيضا، إعلاء لكل أشكال الفهلوة والمحسوبية والحنجلة والتطبيل والسرقة واغتصاب الحقوق، ومحاربة لكل أوجه الصدق والكفاءة والخبرة، لك أن تتخيل كيف سيكون الأمر حينما يعين أمثال اللواء عبد العاطي "الكفتجي" في المفاعل النووي! حتما لن يعدم حيلة للسيطرة على اليورانيوم "المتبل" وأجهزة "الطرب" المركزي...

إن موافقة الدول على إنشاء مصر لمفاعل نووي ليست بشهادة على الكفاءة، وإنما هي ورقة ضغط وترهيب أخرى، تهدد بها سائر الدول مصر، فهل يعقل أن تشهد روسيا على كفاءة دولة قامت بمنع الرحلات الجوية المتبادلة بينهما إثر سقوط الطائرة الروسية بعدما تبين لروسيا انعدام الكفاءة في تأمين وإدارة المطارات!

يبقى في النهاية بصيص أمل ألا نصل إلى نهاية رحلتنا نحو الفناء، وللمفارقة أن هذا البصيص لا يعتمد بتاتا على احتمالية أن يدار المفاعل بكفاءات تمنع كوارثه، ولكن من يبثون فينا روح التفاؤل يطرحون احتمالات معتبرة أن هذا المفاعل ليس إلا "فنكوشا" جديدا، أو أن اليورانيوم الذي سيستخدم سيكون مغشوشا ببودرة سيراميك...

الأربعاء، 26 أغسطس 2015

الأحد، 16 أغسطس 2015

لم يستدل على العنوان... تسلم إلى المرسل...



عزيزتي راء...

اسمحي لى أن أكتب إليك رسالة أخاطبني فيها...
فلا أشد على المخلوق من أن يفشل في القيام بالمهمة التي وجد لأجلها...
وهذه الرسائل لم ولن تصلك...
وظلت حائرة في فضاء الكتروني واسع...
وأوسع منه عشق ووجع دفين...

فالآن أرأف بحال رسالتي الأخيرة...

فلا أتركها حائرة بلا مستلم...
ولأني أعلم أنها ستعود إلى مرسلها...
فلأجعل محتواها مناسبا لعنوانها...

عزيزي حاء...

أعلم أنك مغرم بالتفاصيل...
هي مهارة طالما ميزتك في مجال عملك...
ولكنها آذتك في علاقاتك الإنسانية...
أجل...
التفاصيل مستودع الألم...
والتفاصيل وقود الذاكرة...

أنت وحدك من تهتم بالتفاصيل...
حتى وإن ادعت هي أو غيرها أنهن يلاحظن التفاصيل...
فرق كبير بين من يلاحظ...
ومن يهتم...
أنت تعلم أن كل تجاربها الأولى التي وددت أن تشاركها فيها... خاضتها بدونك...
هل اهتمت لذلك!
فلماذا تهتم أنت!
ألا يكفيك أن كل أفراحك وأحزانك... كل لحظاتك الصعبة... كل تجاربك الإنسانية...
تخوضها فردا!
تظن واهما أنه قد يبقى لكما أحداث تتشاركانها سويا لتتذكراها يوما ما...

وضعت قائمة بأسماء أولادك...
بنين وبنات...
لم تخترها معك...
ولن تسمعها تنادي بها أطفالكما...
ألست تهتم بالتفاصيل!

منذ أيام قالت لك أختك أن شيبا قد بدأ يغزو فودك الأيسر...
هذه واحدة... اثنتان... ثلاث شعرات...
ألم تنتظر أن تكون هي من يعد شعرات الشيب!
ألست تهتم بالتفاصيل!

عزيزي حاء...
أعلم أنك تسكن قلعتك التي تحميك منهن...
حتى إذا ما استطاعت إحداهن تسورها انهارت قلعتك وغمرتها بموجك...
وتفشل دوما في إغراقها...
فتنسحب إلى قلعتك القديمة...
الأقوى...
والأعلى أسوارا...
وقد سددت كل نقاط الضعف فيها...
ألست تهتم بالتفاصيل!

عد إلى قلعتك واسترح...
فليس في بنات حواء من تقدر على تلك الأسوار المظلمة...

عزيزتي راء...
شكرا لك...