من أنا

صورتي
طبيب ومدون، ابدأ خطواتي نحو المشاركة السياسية والحقوقية، أعشق الهدوء والخط العربي والتصوير. dr_hossam_elamir@hotmail.com

الأربعاء، 13 أبريل 2016

إنهيار آخر حصون العقلية الاستعلائية المصرية



كتب عصام شرارة

أتذكر وأنا في بداية مرحلة الشباب أني كنت أجد صعوبة كبيرة في تمييز وفهم كلمات أغاني فيروز باللهجة اللبنانية و انت هناك كثير من الكلمات التي حفظتها خاطئة ولم اكتشف ذلك إلا بعد خروجي من مصر واحتكاكي بمعظم الجنسيات العربية عن قرب وبمرور الوقت استطعت فهم اللهجات المختلفة والأهم استطعت فهم الفروق النفسية والشخصية بين هذه الجنسيات ومنها بالطبع جنسيتي المصرية التي تعلمت عنها أشياء لم أكن أعلمها قبل خروجي من مصر .

غذى الإعلام الناصري وما بعده وما تم حشوه في الكتب الدراسية عملية التمحور حول الذات في الشخصية المصرية وبناء حصون للشخصية الاستعلائية التي ترى نفسها أفضل من محيطها العربي بل وأحياناً الدولي استناداً إلى (التاريخ و الجغرافيا) و(أسبقية المدنية والتحضر) و(الثقافة) و(الإعلام) و(الريادة الدينية) و(الجيش ، مصدر الفخر الوطني المبالغ فيه) .

بدأ اغتراب المصريين وسفرهم للعمل في الدول العربية منذ الخمسينات في القرن الماضي ولكنها كانت في معظمها عمليات إعارة لموظفين كالمدرسين والقضاة ثم تلتها في الستينات خروج كثير من أعضاء الإخوان المسلمين هروباً من بطش السلطة ولكن معظم هذه الحالات لم تكن تمثل احتكاك شعبي حقيقي بين الثقافات العربية ولكني أعتبرها احتكاك نخبوي استطاع من خلاله المصريون التأثير في الدول التي سافروا إليها ولكن لم يحدث العكس وظل المصريون يجهلون طبيعة محيطهم العربي وكل الأفكار عنه تكونت من الأفلام السينمائية بمبالغاتها الكوميدية .

في منتصف السبعينات وبعد حرب 73 وما تلاها من أزمة اقتصادية طاحنة وحالة تضخم كبيرة جداً أدت لإزاحة معظم الطبقة الوسطى للأسفل بدأت موجة السفر والاغتراب الكبرى والمستمرة حتى الآن والتي اتسعت لتشمل معظم دول العالم ولكن يظل الجزء الأكبر منها في دول الخليج العربي ومن قبل كان في العراق وليبيا ، وأدى ذلك لاحتكاك شعبي حقيقي وعلى نطاق واسع ، وشهد هذا الاحتكاك الشعبي الواسع للثقافات على مدى سنوات تقترب من الأربعين مراحل عدة بدأت بتحصن المصري بكافة حصونه الاستعلائية نظراً لأحوال الدول العربية وخاصة الخليجية وتأخرها التعليمي والحضاري في البدايات، ثم مع مرور الزمن بدأت حصون هذه العقلية الاستعلائية تنهار واحداً تلو الآخر نتيجة قيام المحيط العربي بالتحرك للأمام مع ثبات مصر وممارستها الحركة في المحل وأحياناً الرجوع للخلف.

أول الحصون إنهياراً كان (أسبقية المدنية و التحضر) نتيجة ما رآه المصريون من تطور سريع في دول الخليج في مجالات العمران والتعليم والصحة والخدمات التي تقدم للمواطنين وتطور الحياة المدنية والنظافة والتنظيم في الشوارع مقارنة بالانحدار الذي كانت تسير به مصر .

ثم أتى الدور على حصن (الريادة الدينية) التي كان يمثلها الأزهر، فبعد عملية الإخصاء التي قام بها عبد الناصر للأزهر اضمحل دوره كثيراً وفي نفس الوقت أنفقت السعودية مبالغ طائلة على نشر ثقافتها السلفية وطباعة الكتب وتوزيعها وتعليم الدعاة فكان أن سيطرت الدعوة السلفية من نهاية السبعينات على الفضاء الدعوي في مصر وملأت الفراغ الذي تركه انحسار دور الأزهر ورداءة مخرجاته وتحوله إلى كيان بيروقراطي كجزء من الجهاز الحكومي المصري.

ومع ظهور الأقمار الصناعية بدأت الدول العربية في تطوير إعلامها وانطلقت الجزيرة التي تقدم إعلام مهني ومختلف تمام الاختلاف عن النمط الحكومي السائد وأظهرت تفوقاً جباراً دفع دولاً كثيرة للحاق بركبها مما أدى لانحسار دور الإعلام المصري المغرق في الذاتية والمقيد بشدة. إنهار إذاً حصن (الإعلام) في الألفية الجديدة وظهر الإعلام المصري بطيئاً متخلفاً في تقنياته وكوادره ومعالجاته وحتى مع ظهور القنوات الخاصة ظلت الفروق تتسع وتشعر الإنسان المصري أن التفوق الإعلامي لم يعد موجوداً.

ومع تطور الإعلام العربي وظهور وانتشار الإنترنت بدأ انهيار حصن آخر وهو (الثقافة)، فسنوات الجفاف الثقافي المصري وتسييس الثقافة أدى لانحسار الريادة واختفاء الرواد وأظهرت ثورة المعلومات أن الثقافة ليست حكراً لمصر والمصريين وأن الشعوب حولنا يوجد لديها مثقفون وأن اهتمامهم بالتعليم أنتج أجيال جديدة مختلفة تتميز ليس فقط بمحاولة الصعود المستمرة ولكن بتكون ثقافتهم نتيجة احتكاك بجنسيات وثقافات كثيرة سواء من العاملين في تلك الدول أو من خلال بعثات التعليم في الخارج لأبناء هذه الدول .

إنهيار الحصون السابقة ترك ندوباً في الشخصية المصرية وجرح كبريائها وجعلها تتشبث أكثر بآخر حصونها وهو (التاريخ و الجغرافيا) و(الجيش) وتحول الفخر الوطني إلى تغني بما مضى وتعظيم وإجلال مبالغ فيه جداً للجيش رغم أن الظروف تغيرت وثورة المعلومات أتاحت الكشف عن الكثير من عمليات تزييف التاريخ وكذلك الجيش المصري ومهامه وعقيدته تغيرت وأحوال مصر السياسية والاقتصادية لم يعد فيها ما يستحق الفخر بل في الحقيقة كنا في حالة انحدار مستمرة .

أتت الثورة في يناير 2011 لتملأ فراغاً موجعاً في الشخصية المصرية ولتصنع حصناً جديداً للشخصية المصرية وهو (الحرية و الكرامة) يعوض ما انهار من حصون ويدفع من جديد للريادة، وبقدر الصعود السريع لمشاعر الفخر بهذا الحصن بقدر السقوط المريع له وتحطيمه بأيدي أحد حصون الشخصية الاستعلائية المصرية وهو (الجيش)، وأثناء سقوط هذا الحصن إنهار حصن (التاريخ والجغرافيا) بعد انكشاف معظم عمليات تزييف التاريخ التي تعرضنا لها وحدثت حالة صدمة كبيرة وانفصال مؤلم بين حاضرنا وتاريخنا وتطورت لكراهية جزء كبير من المصريين لهذا التاريخ. هذه الصدمة الكبيرة والمؤلمة أدت لتمسك جزء كبير من المصريين بالحصن الأخير وتفضيل الخضوع له بكل مساوئه على أي بديل آخر، إنه نوع من تشبث الغريق بالقشة المتاحة والتي لن تمنعه من الغرق ولكنه يريد أن يوهم نفسه أنها ستفعل لذلك لا يصدق كل من يحذره منها.

و هنا وضع الجيش نفسه في موقف المنقذ للدولة والشعب وسيطر صراحة على مفاصل الدولة والحكم ولكنه لعدم كفاءته السياسية والإدارية ولأطماع قياداته هدم بيده الحصن الأخير للشخصية الاستعلائية المصرية ، وتوالت الشواهد على هذا السقوط والناس لا تريد أن تصدق وتمر بمرحلة إنكار عنيفة نزعت العقل والمنطق منهم ولكن في النهاية انتصرت الحقائق وكان موضوع التخلي عن حقوقنا في النيل ثم التخلي عن جزر تيران وصنافير بمثابة صدمة الإفاقة وبداية لانهيار الحصن الأخير.

الشخصية المصرية الآن في حالة صدمة وتشتت وشعور مر بأنه لم يعد لديها شئ لتستند عليه وأن صورتها الذهنية التي تكونت على مدار عقود طويلة انهارت وظهرت صورة قبيحة يستخف بها العالم كله ويتطاول عليها من كنا نعدهم بالأمس عرب أجلاف.

معضلة كبيرة وصدمة حضارية من الصعب جداً علاجها أو توقع نتائجها على المدى القصير والطويل.

كان الله في عون مصر والمصريين...