من أنا

صورتي
طبيب ومدون، ابدأ خطواتي نحو المشاركة السياسية والحقوقية، أعشق الهدوء والخط العربي والتصوير. dr_hossam_elamir@hotmail.com

الجمعة، 3 فبراير 2012

استدعاء


برجاء الضغط على الرابط التالي لقراءة تدوينة (لم يصبه الدور) أولا، فهما مرتبطتان. 


ضجيج عال، لا يستطيع تبين مصدره ولا معناه، وحرقة شديدة في العينين والأنف والصدر، بالكاد يستطيع البدء في الشهيق، ثم يتوقف من فرط الألم والرغبة في السعال.

يحاول أن يتغلب على ألمه بالانشغال عنه، يبدأ في تذكر الأحداث التي مرت من ليل أمس إلى الآن، يتحدث بعض الناس أمامه عن أعمال شغب في مباراة الأهلي والمصري، لم يكن يعلم أن الأهلي يلعب مباراة في بورسعيد الآن فقد هجر الكرة إلى الأبد، ما شده في الحوار أن الأحداث تفوق وصف شغب الملاعب المعتاد، فالناس تتحدث عن قتلى بالعشرات، وغياب للأمن تماما!

يأتيه طبيب المستشفى الميداني، يعاين الإصابة التي لحقت به جراء اصطدام قنبلة غاز بجانبه الأيمن قبل أن تسقط بجواره ويضطر لالتقاطها وارجاعها لمن قذفوها، هذه الثواني المعدودة كانت كافية لغزو الغاز المتدفق لعينيه وجهازه التنفسي، ليسقط غائبا عن الوعي جزئيا ويحمله شخصان إلى المستشفى الميداني، الآن يطمئنه الطبيب أنها كدمة سطحية، وأن أنفاسه ستتحسن بعد أخذه جلسة على الجهاز المزود بمحلول موسع للشعب، وأعطاه حقنة كورتيزون، ثم تركه يكمل الجلسة، أما هو فبدأ يستكمل استرجاع أحداث ما بعد المباراة.

تأكد مما سمعه من أخبار وتحليلات أن ما حدث مكيدة دبرها الأمن، لا يهمه معرفة الدافع ولا المكسب الذي يريدانه العسكر والداخلية، ما يهمه أن جثامين أكثر من سبعين ضحية ستصل إلى محطة مصر، وحيثما وجدت أسر الضحايا وجب عليه الوجود، طلبا للبركة أو الغفران لعجزه عن نصرتهم، لم يشغل باله لفهم أسباب أفعاله، فقد أصبح منساقا منذ أن أشار له صاحب الوجه المريح باتباعه، وها هو وسط الجموع يستقبل الضحايا، ويودع من سيلحقون بهم قريبا، فقد رأى صاحب الوجه المريح على وجوه عدد من أصدقاء الضحايا، هل حان دوره؟ يذهب ليرى انعكاس صورته على زجاج أحد الأبواب، فيصيبه الإحباط عندما يرى وجهه بدلا عن الوجه المريح، يوقن أن دوره لم يأت بعد، وأن قدره أن يرى دماء غيره تسيل غدا في مسيرات المتظاهرين.

(عامل أيه دلوقتي؟ كويس؟) يفتح عينيه المحترقتين من أثر الغاز على صوت الطبيب الذي يطمئن عليه، يهز رأسه بالإيجاب، يستمع الطبيب لصوت أنفاسه التي تدخل وتخرج من صدره بصفير مزعج ثم يقول:(لسه شويه، صدرك تعبان، إنت تخلص الجلسه وبعدها تروح على طول، مش عايزين نخسرك النهاردة) يبتسم قليلا وهو يغمض عينيه، فهو يعلم أنه لن ينفذ نصيحة الطبيب، مثلما يعلم أنه لن يصاب بأذى، فدوره لم يحن.

(ولاد الكلب بيضربوا خرطوش جامد، وفي واحد عينه اتصفت) صرخ بها أحدهم خارج المستشفى الميداني، صوته كان واضحا من بين كل الضجيج الذي يلف حوله وكأنما هذا الكلام موجه له، نزع كمامة الجلسة التي يتعاطاها وخرج متجها إلى منطقة المواجهة، ما زال أثر الغاز يهيج عينيه فلا يستطيع فتحهما تماما، يمشي متحاملا على ألمه متفاديا بقايا الحجارة وتجمعات الماء على الأرض، هذا المنظر لم يعتده في مصر إلا بعد تولي العسكر للحكم، فحول مصر إلى ساحات قتال، يقترب من خط المواجهة فيزيد تدفق الهرمونات في دمه، ويقل إحساسه بالألم، للحظة أحس أنه استعاد عافيته، ويمد خطوته ليمر فوق تجمع الماء مسرعا نحو إنقاذ زملائه، بعد عدة خطوات يتوقف فجأة، ويعود مسرعا إلى تجمع الماء، ينظر إلى صورته المنعكسة على سطح الماء، لا يدري لماذا خيل إليه أنه رأى صاحب الوجه المريح، يرفع عينيه إلى مصدر الصوت الذي أتاه محذرا، كان الوجه الذي تمنى دوما أن يراه على انعكاس صورته، نفس الوجه الذي ألفه في كل المظاهرات والاعتصامات التي انتهت بضحايا، نفس الوجه الذي لم يكلمه طوال عام منذ أن طمأنه أنه لن يصيبه سوء، الآن فقط يراه صارخا(حاسب...هيضربوا تاني)، حرقة شديدة يحسها في منتصف صدره من الخلف، يسقط على ركبتيه، ثم يسقط على وجهه وهو متألم.

كم من الوقت مضى بعد سقوطه، لا يعلم، فجأة أصبح يرى من حوله بوضوح، ويسمع أصواتهم جميعا بوضوح، إنهم يحاولون إسعافه، فجأة أصبح يتذكر حياته التي عجز عن تذكرها منذ جمعة الغضب، يتذكرها كما يراها النائم في الحلم، يراها واضحة بكل تفاصيلها، كأنما يعيشها مرة أخرى، أول يوم في المدرسة، أول علقة من والده بعد أن لعب الكرة في الشارع حافيا، فرحة أمه به يوم نجح بمجموع كبير في الإعدادية وكاد الأعادي، صدمتها يوم أن علمت أنه ضبط في المدرسة يدخن السجائر، اسوداد الدنيا في عينيه يوم وفاة والده، أوامر أمه أن يحلق لحيته ويبتعد عن (الجماعة بتوع المسجد)، عزاء جاره الذي ذهب للعمرة ولم يكن يعرف السباحة، احتفالات إحراز كأس الأمم في عباس العقاد، رجاء أمه أن يقر عينها بحفيد قبل أن تموت، خناقات أختيه مع زوجيهما وأولادهما، إحساسه أنه كمالة عدد في بلد العدد فيها موضع انتقاد، صلاته يوم جمعة الغضب، معاناته طول عام أنه لم ينل شرف الإصابة أو الاستشهاد، خيبة أمله في من يتكلمون باسم الشعب من التيارات والأحزاب، إيمانه أن حرية هذا الوطن تكتب بدماء الشهداء، الآن يرى وجوه كل من ماتوا أمامه، مازال من يحاولون إسعافه يبذلون كل الجهد، الآن أصبح يسمع نقاشات لجان البرلمان، ويسمع خفقان قلب أمه قلقا على نزوله، ويسمع صوت حذاء عسكري يصطدم بالأرض مؤديا التحية متبوعا بجملة (تمام يا فندم...كله تمام).

(خلاص مفيش فايدة ما تحاولوش...دوري جه خلاص) قالها أكثر من مرة لمن يسعفونه ولكن صوته لم يخرج، ما عاد يحس بألم، أيقن أن دوره قد حان ليصبح رقما في قائمة الشهداء التي لا نهاية لها، وأن وجهه سيصبح مألوفا لمن حذره قبل إصابته القاتلة، سيظل يتمثل في أوجه الشهداء الذين سيراهم من حذره حتى يحين دروه، تماما كما كان صاحب الوجه المريح يتمثل أمامه في أوجه من شهد قتلهم، ابتسم مسلما روحه، أخيرا تم استدعاؤه.

هناك 6 تعليقات:

غير معرف يقول...

حسبنا الله ونعم الوكيل ....اصبح اولادنا وهم شباب امامهم عمرهم لا يفكروا الا فى النهاية وكيف ستكون النهاية وان الدور سيأتى ولو بعد حين ....ابنتى بتقولى زى ماانت بتقول :انا كل مرة باروح يحصل ضرب وكل مرة بارجع...وبقت بتدخل الى داخل الاحداث وفى المواجهة لتسعف الشباب قدر المستطاع ...واصبحت انا ايضا احتسبهم عند الله اذا نزلوا الى الميدان واؤكد عليهم تجديد نيتهم حتى ننعم جميعا بلقب الشهيد .....اسال الله ان ينتقم من كل واحد اضطر ابناءنا ان ينزلوا من بيوتهم لمواجهة الموت بصدر مفتوح بدون اسلحة الا ايمانهم بقضيتهم واقتناعهم انهم الغالبون وان مصير مجلس القتلة الى مزبلة التاريخ ....فلا نتمنى الا احدى الحسنيين النصر او الشهادة فيارب لا تحرمنا من ايهم .........هذه التدوينة ابكتنى لاننا مازلنا لم نتعافى من مجزرة بور سعيد ثم تحدث هذه الاحداث المروعة عند وزارة الداخلية والتى تنبئ على ان المشوار مازال طويل وان الثمن لم يدفع بعد....لم اكن ادرى ان الحرية والكراةمة ثمنها غالى كده.............جزاك الله خيرا وحفظك الله انت وكل شبابنا لتنعموا بحصاد ما تزرعوه وترووه بدمائكم ودموعكم ونضالكم....................عبير هبة

Rasha Seif يقول...

جئت على الجرح واتكأت ...ماعادت الكلمات تستطيع وصف ما بالنفوس ...وماعاد بالنفس متسع للاحاسيس على اختلافها اصبح الحزن والحنق والغضب ايضا بلا معنى وحل محله حاله من انعدام الشعور..فقط هاجس يلازمك طول الوقت فى نومك قبل صحوك يتردد دائما بداخلك بانك لابداماان تناضل وتنتصراو تموت و لا شىء ثالث ....مره اخرى احييك واشكرك

رشدي العريض يقول...

سامحك الله أبكيتنا
حسبنا الله ونعم الوكيل فيهم فقد قتلوا زهور مصر
اللهم انتقم منهم فرداً فرداً

Raed Refaat يقول...

الله عليك ياحسام حاجه رهيبه يقشعر لها البدن بجد رائع
بس إزاي إنت عايش التفاصيل دي كلها وانت بعيد عن أرض المعركه بسم الله ماشاء الله عليك إحساسك عالي جدا فيها

اسكندر يقول...

حسب يالله ونعم الوكيل " الناس دي بتتعامل معانا على اننا خرفان او حيوانات " يسقط حكم العسكر " المجد للشهداء " كده شويه لو سمحت " والاخ اللى هناك يجي هناك " كتفك كده لو سمحت يا اخ " اتفو على كل عضو فى البرلمان استهان او تاجر بدم الشهداء " الحريه لكل معتقل

Dr Ibrahim يقول...

القصة ممتازة هى أقرب للتأريخ لفترة عصيبة تمر بها مصر..نسأل الله أن يجعل ممن اراد مصر بسوءا أن يجعل كيده فى نحره.